يتراكم أمام الوعي العربي كم هائل من (اللامفكر أو الممنوع التفكير أو المستحيل التفكير فيه)، وذلك بسبب القمع السياسي أوالثقافي للفكر، أوبسبب قصور أدوات التفكير ذاتها .. وبدون تخفيز العقل على اقتحام هذا الكم المتراكم والتصدي له, يصعب كثيراً الحديث عن نهضة أو إقلاع حضاري بما تستوجبه تلك النهضة أو هذا الإقلاع من أسبقية للوعي والإدراك على السلوك الذي يجب أن يخضع للعقل والإرادة، ولا يبقى مجرد استجابة عمياء للظروف والأزمات.
ومسألة حقوق المرأة ما تزال من ضمن اللا مفكر هذا، الذي سوف نساهم في اقتحامه، عبر فتح باب ثابت في المجلة حوله، ينتظر مساهماتكم وآرائكم. نصت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي اعتمدتها الجمعية العامة وعرضتها للتوقيع والتصديق والانضمام بقرارها 34/180 المؤرخ في 18 كانون الأول / ديسمبر 1979 على ما يلي :
إن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية، إذ تلحظ أن ميثاق الأمم المتحدة يؤكد من جديد الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد وقدره، وبتساوي الرجل والمرأة في الحقوق.
وإذ تلحظ أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد مبدأ عدم جواز التمييز، ويعلن أن جميع الناس يولدون أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة في الإعلان المذكور، دون أي تمييز، بما في ذلك التمييز القائم على الجنس.
وإذ تلحظ أن على الدول الأطراف في العهدين الدوليين الخاصين بحقوق الإنسان واجب ضمان مساواة الرجل والمرأة في حق التمتع بجميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية والسياسية.
وإذ تدرك أن تحقيق المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة يتطلب إحداث تغيير في الدور التقليدي للرجل وكذلك في دور المرأة في المجتمع والأسرة.
فقد عقدت العزم على تنفيذ المبادئ الواردة في إعلان القضاء على التمييز ضد المرأة وعلى أن تتخذ،لهذا الغرض، التدابير التي يتطلبها القضاء على هذا التمييز بجميع أشكاله ومظاهره قد اتفقت على ما يلي:
المادة 1
لأغراض هذه الاتفاقية يعنى مصطلح "التمييز ضد المرأة" أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ويكون من آثاره أوأغراضه توهين أوإحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أوفي أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل
المادة 2
تشجب الدول الأطراف جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتتفق على أن تنتهج، بكل الوسائل المناسبة ودون إبطاء، سياسة تستهدف القضاء على التمييز ضد المرأة، وتحقيقاً لذلك تتعهد بالقيام بما يلي:
(أ) إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، إذا لم يكن هذا المبدأ قد أدمج فيها حتى الآن،وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة.
(ب) اتخاذ المناسب من التدابير، تشريعية وغير تشريعية، بما في ذلك ما يناسب من جزاءات،لحظر كل تمييز ضد المرأة.
(ج) فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل،وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى في البلد، من أي عمل تمييزي.
(د) الامتناع عن مباشرة أي عمل تمييزي أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام.
(هـ) اتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أومؤسسة،
(و) اتخاذ جميع التدابير المناسبة، بما في ذلك التشريعي منها، لتغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.
(ز) إلغاء جميع الأحكام الجزائية الوطنية التي تشكل تمييزاً ضد المرأة.
المادة 5
تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتحقيق ما يلي:
(أ) تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر،أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة.
المادة 15
1- تعترف الدول الأطراف للمرأة بالمساواة مع الرجل أمام القانون.
2- تمنح الدول الأطراف المرأة، في الشؤون المدنية،أهلية قانونية مماثلة لأهلية الرجل، وتساوي بينها وبينه في فرص ممارسة تلك الأهلية، وتكفل للمرأة، بوجه خاص، حقوقا مساوية لحقوق الرجل في إبرام العقود وإدارة الممتلكات،وتعاملهما على قدم المساواة في جميع مراحل الإجراءات القضائية.
المادة 16
1- تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية، وبوجه خاص تضمن، على أساس المساواة بين الرجل والمرأة:
(أ) نفس الحق في عقد الزواج ؛
(ب) نفس الحق في حرية اختيار الزوج، وفي عدم عقد الزواج إلا برضاها الحر الكامل.
(ج) نفس الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه.
(د)نفس الحقوق والمسؤوليات بوصفهما أبوين، بغض النظر عن حالتهما الزوجية،في الأمور المتعلقة بأطفالهما وفي جميع الأحوال، يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول .
(هـ) نفس الحقوق في أن تقرر، بحرية وبإدراك للنتائج، عدد أطفالها والفاصل بين الطفل والذي يليه، وفي الحصول على معلومات والتثقيف والوسائل الكفيلة بتمكينها من ممارسة هذه الحقوق.
(و) نفس الحقوق والمسؤوليات فيما يتعلق بالولاية والقوامة والوصاية على الأطفال وتبنيهم، أوما شابه ذلك من الأعراف،حين توجد هذه المفاهيم في التشريع الوطني، وفي جميع الأحوال يكون لمصلحة الأطفال الاعتبار الأول.
(ز) نفس الحقوق الشخصية للزوج والزوجة بما في ذلك الحق في اختيار اسم الأسرة والمهنة ونوع العمل؛
(ح) نفس الحقوق لكلا الزوجين فيما يتعلق بملكية وحيازة الممتلكات والإشراف عليها وإدارتها والتمتع بها والتصرف فيها، سواء بلا مقابل أو مقابل عوض.
2 - لا يكون لخطوبة الطفل أو زواجه أي أثر قانوني، وتتخذ جميع الإجراءات الضرورية بما في ذلك التشريعي منها، لتحديد سن أدنى للزواج ولجعل تسجيل الزواج في سجل رسمي أمراً إلزامياً.
بعد هذا الاستعراض لأهم بنود الاتفاقية الدولية التي تشكل جزءاً من القانون العالمي الذي سيكون له دور أكبر مع تقدم العولمة الاقتصادية - السياسية.. سوف نطرح للنقاش مدى افتراقنا عن الركب الذي تسير عليه البشرية، ومدى قدرة أنظمتنا وثقافتنا على التلاؤم مع هذه الاتفاقية آخذين بالاعتبار الاعتراضات الخاصة التي تتعلق بالخصوصية والهوية، أو تلك المتعلقة بالدين، وهذا يستوجب الإجابة على تساؤلات تستحق التفكير والتأمل والنقاش.
هل ننكر هذه الاتفاقية ونعتبرها جزءاً من الغزو الخارجي، ونغلق أنفسنا عنها كما هو حاصل الآن (حيث غالبية الدول العربية والإسلامية تتجاهل هذه الاتفاقية)؟، أم نفكر في طرق تفهمها ونحاول تغيير الواقع ليتلاءم معها ؟.. وهل نحن قادرون على الاستمرار في التجاهل، ما الذي يجري على الأرض وما هو المرشح للحدوث، وما هو أفيد لنا ولمجتمعاتنا ؟..
كيف تصبح منظومة أخلاقية معينة كانت فعالة ومنطقية ومفيدة في زمن معين، كيف تصبح غير عملية ولا تحقق الغاية المرجوة منها في زمن آخر، ما هو أثر التاريخ كحركة تغير وتبدل على النظم بما فيها النظم الاجتماعية والأعراف والعادات والعقائد ؟..
ما هو الأصل في تمييز المرأة عن الرجل ولماذا هذا التمييز، كيف يمكن لنظام جنس وزواج نشأ في العصر العبودي أن يكون صالحاً في العصر الرأسمالي المعولم ..
هل حرية استعمال الجسد سوف تضر بالمصالح الاجتماعية بالرغم من نشوء الدولة الحديثة بمؤسساتها الفعالة، وبالرغم من تطور الطب وقدرته على فصل المتعة عن الإنجاب؟ هل المرأة عورة يجب سترها وإخفاؤها لأن ظهورها يشكل خطراً على المجتمع، هل العقائد والديانات تبغي مكارم الخلق وفائدة البشر، وغير متحيزة للوسيلة، أم أن الوسيلة عندها غاية أيضاً لا يجب تغييرها، كيف استطاعت المسيحية التأقلم مع المتغيرات الاجتماعية الجديدة، وهل الإسلام قادر على ذلك، هل الإسلام دين المحرمات الجنسية بامتياز ؟، وهل المطالبة بحقوق المرأة التي تنص عليها الاتفاقية سوف يتعارض مع الدين وإلى أي مدى، وبالتالي هل توجد إمكانية للتعايش أو التوافق بينهما ؟.. ولماذا نحافظ على نظم قديمة وندافع عنها.. هل هناك غايات أخلاقية نبيلة، أم أهداف سياسية محددة بشرائح معينة مرتبطة بتركيبة ثقافية سياسية متماسكة ومتعاضدة؟.
وكيف نقيّم التجربة الغربية، وما موقعنا منها، وهل تفيد مقاومة تيار الثقافة الغربية الزاحفة مع التكنولوجيا والبضاعة الغربية، وكيف يمكن أن نمنع من امتلك ناصية الحضارة من أن يفرض ثقافته بدون أن نخرج خارج دائرة الحضارة.. وهل يمكن أخذ منتجات الحضارة المادية بدون محتواها الثقافي.
هل التكنولوجيا والسلعة ونظام الحياة ونظام الإنتاج ونظام السياسة محايدة عن نظام الأخلاق والعادات؟؟ ..
إن نقاشاً بهذا المستوى هو الوحيد القادر على جعل مسألة حقوق المرأة مسألة عملية وقابلة للتطبيق، وبدونه لن تكون هناك إمكانية لتبني الاتفاقية تشريعياً وحمايتها بالقوانين.. مع العلم أن مسألة المرأة لا تقل أهمية عن مسألة الحريات من بين مسائل حقوق الإنسان بسبب شيوعها، حيث تشمل الانتهاكات حقوق غالبية النساء في مجتمعنا.
أيضاً من حيث تأثيرها على نمط حياة الرجل والطفل، ومن حيث ضرورتها لدعم بقية القضايا الإنسانية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية).
سوف نحاول هنا الإجابة على أحد التساؤلات منتظرين مساهماتكم:
هل مسألة حقوق الإنسان عموماً وحقوق المرأة خصوصاً مسألة مستوردة؟!:
الإنسان بالتأكيد ليس مستورداً.. لكن نظم حياته تخضع للتطور والتغير، والبشر من حيث المولد متشابهين.. أي لا مانع تشريحي عرقي من انطباق نظم وعلاقات معينة على أية مجموعة بشرية..
يبقى الفارق بين البشر نسبياً ومتأثراً بالظروف المحيطة.. وليس تكوينياً خالداً ومطلقاً. أي أن موضوع استعارة نظم ومفاهيم مشابهة لعملية استيراد بضائع وتكنولوجيا..، ولا شيء يبرر التفريق المطلق والدائم بين البشر سوى النظريات التعصبية العرقية العنصرية، والنزعات الانغلاقية الرجعية المتزمتة. كما أن حاجات الإنسان ومتطلباته متشابهة إلى حد ما في مستوى معين من التطور الحضاري. ولما كانت علاقة الإنتاج الرأسمالية التي طبعت العصر بطابعها وأعطته اسمها، ميالة بشكل طبيعي لتعميم ذاتها، ولما صار كل العالم يعيش نمط إنتاج رأسمالي بطرق وأشكال مختلفة (حتى الدول التي تدعي أنها اشتراكية)، صار من الطبيعي أن ينتج عن نمط واحد من الاقتصاد ونمط واحد من السياسة نمط متشابه من الثقافة، وهكذا يمكن اعتبار القرن الجديد قرن العولمة بامتياز. حيث يظهر العالم ميلاً شديداً نحو الوحدة السياسية والثقافية والحقوقية. بعد أن صار بالفعل موحداً تجارياً واستهلاكيا ثم إنتاجيا بفضل عاملين (الرأسمالية المعولمة وثورة الاتصالات).
لقد ارتبطت مسألة حقوق الإنسان ( بالشكل الذي تطرح فيه اليوم) بتطور الرأسمالية، وكانت المبادئ الأخلاقية الإنسانية من قبل - خاصة في المرحلة الإقطاعية - مندمجة بالنظام الديني المتكامل والذي كان يلعب دوراً كبيراً في تنظيم المجتمعات، كانت الأخلاق والمثل الإنسانية الرفيعة تعيش في العقائد والديانات التي تتشكل عليها ومن أجلها ( إنما مع ملاحظة أن الإنسان من دين مخالف قد يفقد الكثير من حقوقه بما فيها حق الحياة أحياناً)، لكن مسألة حقوق الإنسان كمسألة مستقلة منفصلة عن الدين وتخص كل إنسان بغض النظر عن دينه ومعتقده هي مسألة حديثة الطرح، متعلقة بتطور الرأسمالية وقيام الدولة الحديثة، حيث فقدت الثقافة دورها في تنظيم المجتمع لصالح السياسة، ولم يعد يرتكن للوازع الديني الذي يوظف الرعب الميتافيزيقي في تدعيم النظام الاجتماعي السياسي، بل صار بالإمكان تطوير أجهزة مراقبة ومعاقبة قادرة على تطبيق النظام بغض النظر عن قناعة كل فرد، وبدون الحاجة لتكبيله من الداخل أو إرهابه أو كبته أو منعه من المعرفة والنقد أو وعده بوعود جزائية أخروية، أي بغض النظر عن تكوين ضميره وأناه العليا، وقناعاته ومعارفه وإيمانياته ..، فصارت الحريات الثقافية لا تتعارض مع النظام الاجتماعي، بل تشكل شرطاً ضرورياً لمنع الاستبداد الذي يمكن أن تمارسه أجهزة الدولة الحديثة الجبارة.. إذا لم تخضع لمراقبة مواطنين أحرار لهم حقوقهم التي تضمن مصالحهم وتضمن مشاركتهم في صياغة الدولة التي ينضوون تحتها ويطيعون قانونها بغض النظر عن قناعتهم به، بل إن هذه الحرية هي الشرط الضروري لبناء المجتمع الحديث وشرط من شروط العقد الاجتماعي .
ولأن أوربا كانت سباقة إلى الرأسمالية (بما تعنيه من إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وقيام دولة المواطنة الحديثة بمؤسساتها ونظمها المتطورة) كانت سباقة أيضاً لطرح مسألة حقوق الإنسان.. وطالما نحن نلعب دور المستورد للحضارة، نستورد منها كل شيء: السلع المصنعة والتكنولوجيا والعلم ثم العلاقة الرأسمالية ونمط الإنتاج الرأسمالي فنحن مجبرون على استيراد ما يتبع ذلك من بنى ثقافية وسياسية وحقوقية..
و ها هو العالم يسرع الخطى نحو الاندماج والتوحد بإشراف وهيمنة الحضارة الغربية بمفاهيمها وقيمها لأنها الأقوى ولأن التاريخ لا ينتظر المتأخرين ( وهذا لا يمنع نظرياً من أن تغتني تلك الحضارة بتراث وتجارب ومساهمات بقية الشعوب, لكن بما ينسجم مع منطقها الداخلي ونظامها الكلي).
من الطبيعي إذاَ .. أن تظهر الدعوة لحقوق الإنسان بمظهر غربي مستورد، لكنها أيضاً تلبي حاجة محلية، تماماً كما ظهرت الدولة الحديثة وكما ظهرت علاقات السوق وكما تحول كل منتوج إلى سلعة، وكما تحول المال إلى وسيلة لا بد منها للحصول على أي شيء، وكما طغت المصالح الفردية المباشرة على كل ما عداها من انتماءات وعصبيات، وكما نشأت الحاجة للدولة الحديثة كناظم وحيد للعلاقة بين المواطن والمواطن وبينه وبين بقية مؤسسات المجتمع.. فهذه الظواهر كلها ليست غربيّة إلا بقدر ما هو(أي الغرب) أحدث وأرقى وأقوى وأقدر على تصدير ذاته وتعميمها .. فمن الطبيعي على من يتبنى نمط الإنتاج والاستهلاك الغربي أن يضطر عاجلاً أم آجلاً لتبني بقية الأشياء الغربية، فالمنظومات الاجتماعية متكاملة ومتعاضدة..
(بعض المتعصبين للتراث الثقافي والديني يرفضون كل شيء حديث بحجة أنه غربي حتى السلع، لإدراكهم ارتباط نمط الحياة والاستهلاك بنظم التفكير والثقافة, وهم محقون بذلك).
أيضاً سيكون من الطبيعي أن تتغير هويتنا وتُقتَحم خصوصيتنا ونضطر لتطويرها وتغييرها، وربما نضطر لإحداث قطيعة مع الكثير من مضامينها.. خاصة تلك النظم التي تعمل متكاملة ولا تقبل التطوير ولا التجديد.. فالمنظومات الثقافية والعقائدية المغلقة والشمولية هي التي وضعت نفسها في مواجهة التاريخ , وصارت محكومة بقانون النفي, تحت ضغط المتغيرات التي لا تستطيع استيعابها.. وهذا لن يكون سلساً وغير مؤلم.. لكنه حتمي ووعينا لحتميته هي التي تخفف ألمه.. وكل من يضعون أنفسهم ضد التغيير، مدعين التمسك بالموروث العادي أو المقدس.. يدركون أن البساط ينسحب من تحت أقدامهم, ومن هنا مشكلتهم ومن هنا توترهم .. إن تخطيطاً بيانياً لمجموعة المتغيرات تعطي نتيجة لا يصعب على أحد استنتاجها:
هي أن التغيير حتمي والمسألة هي مجرد مسألة وقت ليس إلا، ولا فائدة من مقاومة التيار ..
ومن المفيد في هذا المضمار مطالعة تجارب الآخرين ممن جربوا المقاومة..
في الواقع يجب الاعتراف أن ثقافة حقوق الإنسان تتعارض مع الموروث الثقافي.. وهذا لا يعطينا حرية الاختيار ، فالذي يجري على الأرض هو استمرار الموروث الثقافي شكلاً ، مع تسلل الثقافة الجديدة خلسة، ويتعمد الموروث الثقافي السائد نظرياً إخفاء وتقنيع متغيرات كبرى لا يريد الاعتراف بها, متسببا في حدوث افتراق واسع - أوحتى تناقض - بين ما يجري في كل يوم وكل مكان، وبين ما يعلن عنه أويسمح بالتصريح به.. فالمقولة التي تقول أن هويتنا راسخة وخالدة ولا تتغير، أوأن مجتمعنا محافظ، وأنه لا يقبل الثقافة المستوردة تبدو- إلى حد كبير - ساذجة, بالنظر لشيوع الرغبات والممارسات والعلاقات التي تضرب بالموروث عرض الحائط.
لذلك صارت الشفافية التي تطلب منا رؤية الواقع كما هو، تجبرنا على الاعتراف بحقوق المرأة وبمساواتها بالرجل, فالحضارة الحديثة مجازاً تقاس بتحرر المرأة، وبقدر ما تحصل المرأة على كرامتها وحريتها بقدر ما يتحضر المجتمع ويتمتع بالخير والحب والجمال، وبقدر ما تُضطهَد المرأة وتستعبد، بقدر ما يسود التخلف والتوتر والعنف والكذب والقذارة..
لكن النظم القمعية تريد الحفاظ على سلطتها من خلال تكريس ثقافة القمع والمنع المتعاضدة مع ثقافة السرية والاحتجاب والمبنية على التناقض بين الظاهر والباطن (الخارج / الداخل) بين المعلن والمستور بين ما يعتمل النفس من رغبات وما يحركها من دوافع، وبين سلوك يحاول التظاهر بعكس ذلك دون نجاح إلا في صعيد الشكل ... وذلك كله يقف على النقيض تماماً من ثقافة الشفافية والصدق والتعبير الصريح والحر عن الرغبات والآراء..
لذلك لا يمكن فصل مسألة الحجاب والجنس والمساواة بين الرجل والمرأة، عن مسألة الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
فهي مسائل مترابطة وظيفياً في المجتمع الرأسمالي الحديث.
وتحقيق انتصار في أي صعيد سوف ينعكس على بقية الصعد, فحرية الرأي سوف تساعد في انتشار ثقافة جديدة قائمة على الصدق والشفافية، وسوف تزيد من طابع السلطة الديمقراطي مما يسمح بتحقيق ضمانات أكثر للأمومة والطفولة تسمح للمرأة بالتحرر من هيمنة الرجل تلك الهيمنة التي تكرسها ثقافة ونظام زواج ينتميان لعصر العبودية بالمقياس الحديث.
بعد أن حَسمت الرأسمالية الصراع الاقتصادي لصالحها ، وانتصرت على كل خصومها الرجعيين والتقدميين، صار من شبه المؤكد انتصار وشيوع الثقافة الجديدة التي تقوم عليها وتعيد إنتاجها , لذلك انتقل الصراع للصعيد الثقافي، (وتأججت الحركات الثقافية المتزمتة في محاولة يائسة لكبح التاريخ وعرقلة التغيير) وصار الصراع الأساسي كما يقول المفكر الاستراتيجي الأمريكي صموئيل هنغنتون في المرحلة الراهنة والمستقبل القريب صراعاً ثقافياً بين ثقافات قديمة فقدت أرضيتها المادية، وثقافات حديثة متوافقة مع المتغيرات التحتية وتستجيب لها (حسب وجهة نظره).
ومع ذلك، فاليوم وبالرغم من كون النتيجة إلى حد كبير معروفة سلفاً, ومن سيربح المستقبل معروف تماماً، يصر البعض على ضرب رأسه بالجدار.. أما غداً, وإذا حسم هذا الصراع بالطريقة المتوقعة فسيكون من المنطقي والضروري قيام وحدة سياسية كونية ترسخ وحدة اقتصادية وثقافية وحقوقية عالمية تجسد انتصار الأقوى وإلى حد ما الأفضل، وزوال الأضعف وإلى حد ما الأسوأ، وهذه هي سنة الكون.
فهل نستطيع أن نوطن أنفسنا على تلبية استحقاقات الحداثة ، وما هو الطريق إلى ذلك؟
لجان الدفاع عن حقوق الإنسان في سورية
أمارجي
العدد 2 تموز ـ آب 2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق